فصل: ذكر حال غياث الدين بعد قتل عمه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر الظفر بالتيراهية:

كان من جملة الخارجين المفسدين أيضاً على شهاب الدين التيراهية، فإنهم خرجوا إلى حدود سوران ومكرهان للغارة على المسلمين، فأوقع بهم نائب تاج الدين الدز، مملوك شهاب الدين بتلك الناحية، ويعرف بالحلحي، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وحمل رؤوس المعروفين فعلقت ببلاد الإسلام.
وكانت فتنة هؤلاء التيراهية على بلاد الإسلام عظيمة قديماً وحديثاً؛ وكانوا إذا وقع بأيديهم أسير من المسلمين عذبوه بأنواع العذاب.
وكان أهل فرشابور معهم في ضر شديد لأنهم يحيطون بتلك الولاية من جوانبها، لا سيما آخر أيام بيت سكتكين، فإن الملوك ضعفوا وقوي هؤلاء عليهم، وكانوا يغيرون على أطراف البلاد، وكانوا كفاراً لا دين لهم يرجعون إليه، ولا مذهب يعتمدون عليه، إلا أنهم كانوا إذا ولد لأحدهم بنت وقف على باب داره ونادى: من يتزوج هذه؟ من يقبلها؟ فإن أجابه أحد تركها، وإلا قتلها، ويكون للمرأة عدة أزواج، فإذا كان أحدهم عندها جعل مداسه على الباب، فإذا جاء غيره من أزواجها ورأى مداسه عاد.
ولم يزالوا كذلك حتى أسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغوري، فكفوا عن البلاد. وسبب إسلامهم أنهم أسروا إنساناً من فرشابور، فعذبوه فلم يمت، ودامت أيامه عندهم، فأحضره يوماً مقدمهم وسأله عن بلاد الإسلام، وقال له: لو حضرت أنا عند شهاب الدين ماذا كان يعطيني؟ فقال له المعلم: كان يعطيك الأموال والأقطاع ويرد إليك حكم جميع البلاد التي لكم؛ فأرسله إلى شهاب الدين في الدخول في الإسلام، فأعاده ومعه رسول بالخلع والمنشور بالأقطاع، فلما وصل إليه الرسول سار هو وجماعة من أهله إلى شهاب الدين، فأسلموا وعادوا، وكان للناس بهم راحة؛ فلما كانت هذه الفتنة واختلفت البلاد نزل أكثرهم من الجبال، فلم يكن لهذه الطائفة بهم قدرة ليمنعوهم، فأفسدوا وعملوا ما ذكرناه.

.ذكر قتل شهاب الدين الغوري:

في هذه السنة، أول ليلة من شعبان، قتل شهاب الدين أبو المظفر محمد ابن سام الغوري، ملك غزنة وبعض خراسان، بعد عوده من لهاوور، بمنزل يقال له دميل، وقت صلاة العشاء.
وكان سبب قتله أن نفراً من الكفار الكوكرية لزموا عسكره عازمين على قتله، كما فعل بهم من القتل والأسر والسبي، فلما كان هذه الليلة تفرق عنه أصحابه، وكان قد عاد ومعه من الأموال ما لا يحد، فإنه كان عازماً على قصد الخطا، والاستكثار من العساكر، وتفريق المال فيهم؛ وقد أمر عساكره بالهند باللحاق به، وأمر عساكره الخراسانية بالتجهز إلى أن يصل إليهم، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، ولم يغن عنه ما جمع من مال وسلاح ورجال، لكن كان على نية صالحة من قتال الكفار.
فلما تفرق عنه أصحابه، وبقي وحده في خركاه، ثار أولئك النفر، فقتل أحدهم بعض الحراس بباب سرادق شهاب الدين، فلما قتلوه صاح، فثار أصحابه من حول السرادق لينظروا ما بصاحبهم، فأخلوا مواقفهم، وكثر الزحام، فاغتنم الكوكرية غفلتهم عن الحفظ، فدخلوا على شهاب الدين وهو في الخركاه، فضربوه بالسكاكين اثنتين وعشرين ضربة فقتلوه، فدخل عليه أصحابه، فوجدوه على مصلاه قتيلاً وهو ساجد، فأخذوا أولئك الكفار فقتلوهم، وكان فيهم اثنان مختونان.
وقيل إنما قتله الإسماعيلية لأنهم خافوا خروجه إلى خراسان، وكان له عسكر يحاصر بعض قلاعهم على ما ذكرناه.
فلما قتل اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيد الملك بن خوجا سجستان، فتحالفوا على حفظ الخزانة والملك، ولزوم السكينة إلى أن يظهر من يتولاه، وأجلسوا شهاب الدين وخيطوا جراحه وجعلوه في المحفة وساروا به، ورتب الوزير الأمور، وسكن الناس بحيث لم ترق محجمة دم، ولم يوجد في أحد شيء.
وكانت المحفة محفوفة بالحشم، والوزير، والعسكر، والشمسة، على حاله في حياته، وتقدم الوزير إلى أمير داذ العسكر بإقامة السياسة، وضبط العسكر، وكانت الخزانة التي في صحبته ألفي حمل ومائتي حمل؛ وشغب الغلمان الأتراك الصغار لينهبوا المال، فمنعهم الوزير والأمراء الكبار من المماليك، وهو صونج صهر الدز وغيره، وأمروا كل من له إقطاع عند قطب الدين أيبك مملوك شهاب الدين ببلاد الهند بالعود إليه، وفرقوا فيهم أموالاً كثيرة فعادوا.
وسار الوزير ومعه من له إقطاع وأهل بغزنة، وعلموا أنه يكون بين غياث الدين محمود بن غياث الدين أخي شهاب الدين الأكبر، وبين بهاء الدين صاحب باميان، وهو ابن أخت شهاب الدين، حروب شديدة، وكان ميل الوزير والأتراك وغيرهم إلى غياث الدين محمود، وكان الأمراء الغورية يميلون إلى بهاء الدين سام، صاحب باميان، فأرسل كل طائفة إلى من يميلون إليه يعرفونه قتل شهاب الدين وجلية الأمور، وجاء بعض المفسدين من أهل غزنة، فقال للماليك: إن فخر الدين الرازي قتل مولاكم لأنه هو أوصل من قتله، بوضع من خوارزم شاه، فثاروا به ليقتلوه، فهرب، وقصد مؤيد الملك الوزير، فأعلمه الحال فسيره سراً إلى مأمنه.
ولما وصل العسكر والوزير إلى فرشابور اختلفوا، فالغورية يقولون نسير إلى غزنة على طريق مكرهان، وكان غرضهم أن يقربوا من باميان ليخرج صاحبها بهاء الدين سام فيملك الخزانة، وقال الأتراك بل نسير على طريق سوران، وكان مقصودهم أن يكونوا قريباً من تاج الدين الدز مملوك شهاب الدين، وهو صاحب كرمان، مدينة بين غزنة ولهاوور، وليست بكرمان التي تجاور بلاد فارس، ليحفظ الدز الخزانة، ويرسلوا من كرمان إلى غياث الدين يستدعونه إلى غزنة ويملكونه.
وكثر بينهم الاختلاف، حتى كادوا يقتتلون، فتوصل مؤيد الملك مع الغورية حتى أذنوا له وللأتراك بأخذ الخزانة والمحفة التي فيها شهاب الدين والمسير على كرمان، وساروا هم على طريق مكرهان؛ ولقي الوزير ومن معه مشقة عظيمة، وخرج عليهم الأمم الذين في تلك الجبال التيراهية وأوغان وغيرهم، فنالوا من أطراف العسكر إلى أن وصلوا إلى كرمان، فخرج إليهم تاج الدين الدز يستقبلهم، فلما عاين المحفة، وفيها شهاب الدين ميتاً، نزل وقبل الأرض على عادته في حياة شهاب الدين، وكشف عنه، فلما رآه ميتاً مزق ثيابه وصاح وبكى فأبكى الناس، وكان يوماً مشهوراً.

.ذكر ما فعله الدز:

كان الدز من أول مماليك شهاب الدين وأكبرهم وأقدمهم، وأكبرهم محلاً عنده، بحيث إن أهل شهاب الدين كانوا يخدمونه ويقصدونه في أشغالهم؛ فلما قتل صاحبه طمع أن يملك غزنة، فأول ما عمل أنه سأل الوزير مؤيد الملك عن الأموال والسلاح والدواب، فأخبره بما خرج من ذلك وبالباقي معه، فأنكر الحال، وأساء أدبه في الجواب، وقال: إن الغورية قد كاتبوا بهاء الدين سام صاحب باميان ليملكوه غزنة، وقد كتب إلي غياث الدين محمود، وهو مولاي، يأمرني أنني لا أترك أحداً يقرب من غزنة، وقد جعلني نائبه فيها وفي سائر الولاية المجاورة لها لأنه مشتغل بأمر خراسان.
وقال للوزير: إنه قد أمرني أيضاً أن أتسلم الخزانة منك؛ فلم يقدر على الامتناع لميل الأتراك إليه، فسلمها إليه، وسار بالمحفة والمماليك والوزير إلى غزنة، فدفن شهاب الدين في التربة بالمدرسة التي أنشأها ودفن ابنته فيها، وكان وصوله إليها في الثاني والعشرين من شعبان من السنة.

.ذكر بعض سيرة شهاب الدين:

كان رحمه الله شجاعاً مقدماً، كثير الغزو إلى بلاد الهند، عادلاً في رعيته، حسن السيرة فيهم، حاكماً بينهم بما يوجبه الشرع المطهر، وكان القاضي بغزنة يحضر داره كل إسبوع السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، ويحضر معه أمير حاجب، وأمير داذ، وصاحب البريد، فيحكم القاضي، وأصحاب السلطان ينفذون أحكامه على الصغير والكبير، والشريف والوضيع؛ وإن طلب أحد الخصوم الحضور عنده أحضره وسمع كلامه، وأمضى عليه، أوله، حكم الشرع، فكانت الأمور جارية على أحسن نظام.
حكي لي عنه أنه لقيه صبي علوي، عمره نحو خمس سنين، فدعا له، وقال: لي خمسة إيام ما أكلت شيئاً؛ فعاد من الركوب لوقته، ومعه الصبي، فنزل في داره، وأطعمه العلوي أطيب الطعام بحضرته، ثم أعطاه مالاً، بعد أن أحضر أباه وسلمه إليه، وفرق في سائر العلويين مالاً عظيماً.
وحكي عنه أن تاجراً من مراغة كان بغزنة، وله على بعض مماليك شهاب الدين دين مبلغه عشرة آلاف دينار، فقتل المملوك في حرب كانت له، فرفع التاجر حاله، فأمر بأن يقر أقطاع المملوك بيد التاجر إلى أن يستوفي دينه، ففعل ذلك.
وحكي عنه أنه كان يحضر العلماء بحضرته، فيتكلمون في المسائل الفقهية وغيرها، وكان فخر الدين الرازي يعظ في داره، فحضر يوماً فوعظ، وقال في آخر كلامه: يا سلطان، لا سلطانك يبقى ولا تلبيس الرازي، وإن مردنا إلى الله! فبكى شهاب الدين حتى رحمه الناس لكثرة بكائه.
وكان رقيق القلب، وكان شافعي المذهب مثل أخيه؛ قيل: وكان حنفياً، والله أعلم.

.ذكر مسير بهاء الدين سام إلى غزنة:

لما ملك غياث الدين باميان أقطعها ابن عمه شمس الدين محمد بن مسعود، وزوجه أخته، فأتاه منها ولد اسمه سام، فبقي فيها إلى أن توفي، وملك بعده ابنه الأكبر، واسمه عباس، وأمه تركية، فغضب غياث الدين وأخوه شهاب الدين منن ذلك، وأرسلا من أحضر عباساً عندهما، فأخذا الملك منه، وجعلا ابن أختهما سام ملكاً على باميان، وتقلب بهاء الدين، وعظم شأنه ومحله، وجمع الأموال ليملك لبلاد بعد خاليه، وأحبه الغورية حباً شديداً وعظموه.
فلما قتل خاله شهاب الدين سار بعض الأمراء الغورية إلى بهاء الدين سام فأخبره بذلك، فلما بلغه قتله كتب إلى من بغزنة من الأمراء الغورية يأمرهم بحفظ البلد، ويعرفهم أنه على الطريق سائر إليهم.
وكان والي قلعة غزنة، ويعرف بأمير داذ، وقد أرسل ولده إلى بهاء الدين سام يستدعيه إلى غزنة، فأعاد جوابه أنه ت جهز، ويصل إليه، ويعده الجميل والإحسان.
وكتب بهاء الدين إلى علاء الدين محمد بن أبي علي ملك الغور يستدعيه إليه؛ وإلى غياث الدين محمود بن غياث الدين، وإلى ابن خرميل، وإلي هراة، يأمرهما بإقامة الخطبة له، وحفظ ما بأيديهما من الأعمال، ولم يظن أن أحداً يخالفه، فأقام أهل غزنة ينتظرون وصوله، أو وصول غياث الدين محمود، والأتراك، ويقولون: لا نترك غير ابن سيدنا، يعنون غياث الدين، يدخل غزنة.
والغورية يتظاهرون بالميل إلى بهاء الدين ومنع غيره، فسار من باميان إلى غزنة في عساكره، ومعه ولداه علاء الدين محمد وجلال الدين، فلما سار عن باميان مرحلتين وجد صداعاً، فنزل يستريح، ينتظر خفته عنه، فازداد الصداع، وعظم الأمر عليه، فأيقن بالموت، فأحضر ولديه، وعهد إلى علاء الدين، وأمرهما بقصد غزنة، وحفظ مشايخ الغورية، وضبط الملك، وبالرفق بالرعايا، وبذلك الأموال، وأمرهما أن يصالحا غياث الدين على أن يكون له خراسان وبلاد الغور، ويكون لهما غزنة وبلاد الهند.

.ذكر ملك علاء الدين غزنة وأخذها منه:

لما فرغ بهاء الدين من وصيته توفي، فسار ولداه إلى غزنة، فخرج أمراء الغورية وأهل البلد فلقوهما، وخرج الأتراك معهم على كره منهم، ودخلوا البلد وملكوه، ونزل علاء الدين وجلال الدين دار السلطنة مستهل رمضان، وكانوا قد وصلوا في ضر وقلة من العسكر، وأراد الأتراك منعهم، فنهاهم مؤيد الملك وزير شهاب الدين لقلتهم، ولإشتغال غياث الدين بابن خرميل، والي هراة، على ما نذكره، فلم يرجعوا عن ذلك.
وملا استقرا بالقلعة، ونزلا بدار السلطانية، راسلهما الأتراك بأن يخرجا من الدار وإلا قاتلوهما، ففرقا فيهم أموالاً كثيرة، واستحلفاهم فحلفوا، واستثنوا غياث الدين محموداً، وأنفذا خلعاً إلى تاج الدين الدز، وهو بإقطاعه، مع رسول، وطلباه إلى طاعتهما، ووعداه بالأموال والزيادة في الإقطاع، وإمارة الجيش، والحكم في جميع المماليك؛ فأتاه الرسول فلقيه وقد سار عن كرمان في جيش كثير من الترك والخلج والغز وغيرهم يريد غزنة، فأبلغه الرسالة، فلم يلتفت إليه، وقال له: قل لهما أن يعودا إلى باميان، وفيها كفاية، فإني قد أمرني مولاي غياث الدين أن أسير إلى غزنة وأمنعهما عنها، فإن عادا إلى بلدهما، وإلا فعلت بهما وبمن معهما ما يكرهون.
ورد ما معهما من الهدايا والخلع، لم يكن قصد الدز بهذا حفظ بيت صاحبه، وإنما أراد أن يجعل هذا طريقاً إلى ملك غزنة لنفسه.
فعاد الرسول وأبلغ علاء الدين رسالة الدز، فأرسل وزيره، وكان قبله وزير أبيه، إلى باميان وبلخ وترمذ وغيرها من بلادهم، ليجمع العساكر ويعود إليه، فأرسل الدز إلى الأتراك الذين بغزنة يعرفهم أن غياث الدين أمره أن يقصد غزنة ويخرج علاء الدين وأخاه منها، فحضروا عند ابن وزير علاء الدين، وطلبوا منه سلاحاً، ففتح خزانة السلاح، وهرب ابن الوزير إلى علاء الدين وقال له: قد كن كذا وكذا؛ فلم يقدر أن يفعل شيئاً.
وسمع مؤيد الملك، وزير شهاب الدين، فركب وأنكر على الخازن تسليم المفاتيح، وأمره فاسترد ما نهبه الترك جميعه، لأنه كان مطاعاً فيهم.
ووصل الدز إلى غزنة، فأخرج إليه علاء الدين جماعة من الغورية ومن الأتراك، وفيهم صونج صهر الدز، فأشار عليه أصحابه أن لا يفعل، وينتظر العسكر مع وزيره، فلم يقبل منهم، وسير العساكر، فالتقوا خامس رمضان، فلما لقوه خدمه الأتراك وعادوا معه على عسكر علاء الدين فقاتلوهم فهزموهم وأسروا مقدمهم، وهو محمد بن علي بن حردون، ودخل عسكر الدز المدينة فنهبوا بيوت الغورية والبامانية، وحصر الدز القلعة، فخرج جلال الدين منها في عشرين فارساً، وسار عن غزنة، فقالت له امرأة تستهزئ به: أين تمضي؟ خذ الجتر والشمسة معك! ما أقبح خروج السلاطين هكذا! فقال لها: إنك سترين اليوم، وأفعل بكم ما تقرون به بالسلطنة لي.
وكان قد قال لأخيه: احفظ القلعة إلى أن آتيك بالعساكر؛ فبقي الدز يحاصرها، وأراد من مع الدز نهب البلد، فنهاهم عن ذلك، وأرسل إلى علاء الدين يأمره بالخروج من القلعة، ويتهدده إن لم يخرج منها، وترددت الرسل إلى علاء الدين يأمره بالخروج من القلعة، ويتهدده إن لم يخرج منها، وترددت الرسل بينهما في ذلك، فأجاب إلى مفارقتها والعود إلى بلده، وأرسل من حلف له الدز أن لا يؤذيه، ولا يتعرض له، ولا لأحد ممن يحلف له.
وسار عن غزنة، فلما رآه الدز وقد نزل من القلعة عدل إلى تربة شهاب الدين مولاه، ونزل إليها، ونهب الأتراك ما كان منع علاء الدين، وألقوه عن فرسه، وأخذوا ثيابه، وتركوه عرياناً بسراويله.
فلما سمع الدز ذلك أرسل إليه بدواب وثياب ومال، واعتذر إليه، فأخذ ما لبسه ورد الباقي، فلما وصل إلى باميان لبس ثياب سوادي، وركب حماراً، فأخرجوا له مراكب ملوكية، وملابس جميلة، فلم يركب، ولم يلبس، وقال: أريد أن يراني الناس وما صنع بي أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وخربتها ونهبتها لا يلومني أحد. ودخل دار الإمارة وشرع في جمع العساكر.

.ذكر ملك الدز غزنة:

قد ذكرنا استيلاء الدز على الأموال والسلاح والدواب وغير ذلك مما كان صحبة شهاب الدين وآخذه من الوزير مؤيد الملك، فجمع به العساكر من أنواع الناس، الأتراك والخلج والغز وغيرهم، وسار إلى غزنة وجرى له مع علاء الدين ما ذكرنا.
فلما خرج علاء الدين من غزنة أقام الدز بداره أربعة أيام يظهر طاعة غياث الدين، إلا أنه لم يأمر الخطيب بالخطبة له ولا لغيره، وإنما يخطب للخليفة، ويترحم على شهاب الدين الشهيد حسب.
فلما كان في اليوم الرابع أحضر مقدمي الغورية والأتراك، وذم من كاتب علاء الدين وأخاه، وقبض على أمير داذ والي غزنة، فلما كان الغد، وهو سادس عشر رمضان، أحضر القضاة والفقهاء والمقدمين وأحضر أيضاً رسول الخليفة، وهو الشيخ مجد الدين أبو علي بن الربيع، الفقيه الشافعي مدرس النظامية ببغداد، وكان قد ورد إلى غزنة رسولاً إلى شهاب الدين، فقتل شهاب الدين وهو بغزنة، فأرسل إليه وإلى قاخضي غزنة يقول له: إنني أريد أن أنتقل إلى دار السلطانية، وأن أخاطب بالملك، ولا بد من حضورك؛ والمقصود من هذا أن تستقر أمور الناس، فحضر عنده، فركب الدز، والناس في خدمته، وعليه ثياب الحزن، وجلس في الدار في غير المجلس الذي كان يجلس فيه شهاب الدين، فتغيرت لذلك نيات كثير من الأتراك، لأنهم كانوا يطيعونه ظناً منهم أنه يريد الملك لغياث الدين، فحيث رأوه يريد الانفراد تغيروا عن طاعته، حتى إن بعضهم بكى غيظاً من فعله؛ وأقطع الإقطاعات الكثيرة، وفرق الأموال الجليلة.
وكان عند شهاب الدين جماعة من أولاد ملوك الغور وسمرقند وغيرهم، فأنفوا من خدمة الدز، وطلبوا منه أن يقصد خدمة غياث الدين، فأذن لهم وفارقه كثير من أصحابه إلى غياث الدين وإلى علاء الدين وأخيه صاحبي باميان، وأرسل غياث الدين إلى الدز يشكره، ويثني عليه لإخراج أولاد بهاء الدين من غزنة، وسير له الخلع، وطلب منه الخطبة والسكة، فلم يفعل، وأعاد الجواب فغالطه، وطلب منه أن يخاطبه بالملك، وأن يعتقه من الرق لأن غياث الدين ابن أخي سيده لا وارث له سواه، وأن يزوج ابنه بابنة الدز، فلم يجبه إلى ذلك.
واتفق أن جماعة من الغوريين، من عسكر صاحب باميان، أغاروا على أعمال كرمان وسوران، وهي أقطاع الدز القديمة، فغنموا، وقتلوا، فأرسل صهره صونج في عسكر، فلقوا عسكر الباميان فظفر بهم، وقتل منهم كثيراً، وأنفذ رؤوسهم إلى غزنة فنصبت بها.
وأجرى الدز في غزنة رسوم شهاب الدين، وفرق في أهلها أموالاً جليلة المقدار، وألزم مؤيد الملك أن يكون وزيراً له، فامتنع من ذلك، فألح عليه، فأجابه على كره منه، فدخل على مؤيد الملك صديق له يهنئه، فقال: بماذا تهنئني؟ من بعد ركوب الجواد بالحمار؟ وأنشد:
ومن ركب الثور بعد الجوا ** د أنكر إطلاقه والغبب

بينا الدز يأتي إلى بابي ألف مرة حتى آذن له في الدخول أصبح على بابه! ولولا حفظ النفس مع هؤلاء الأتراك لكان لي حكم آخر.

.ذكر حال غياث الدين بعد قتل عمه:

وأما غياث الدين محمود بن غياث الدين فإنه كان في إقطاعه، وهو بست وأسفزار، لما قتل عمه شهاب الدين، وكان الملك علاء الدين بن محمد بن أبي علي قد ولاه شهاب الدين بلاد الغور وغيرها من أرض الروان، فلما بلغه قتله سار إلى فيروزكوه خوفاً أن يسبقه إليها غياث الدين فيملك البلد ويأخذ الخزائن التي بها.
وكان علاء الدين حسن السيرة من أكابر بيوت الغورية، إلا أن الناس كرهوه لميلهم إلى غياث الدين، وأنف الأمراء من خدمته مع وجود ولد غياث الدين سلطانهم، ولأنه كان كرامياً مغالباً في مذهبه، وأهل فيروزكوه شافعية، وألزمهم أن يجعلوا الإقامة مثنى؛ فلما وصل إلى فيروزكوه أحضر جماعة من الأمراء منهم: محمد المرغني وأخوه، ومحمد بن عثمان، وهم من أكابر الأمراء، وحلفهم على مساعدته على قتال خوارزم شاه وبهاء الدين، صاحب باميان، ولم يذكر غياث الدين احتقاراً له، فحلفوا له ولولده من بعده.
وكان غياث الدين بمدينة بست لم يتحرك في شيء انتظاراً لما يكون من صاحب باميان، لأنهما كانا قد تعاهدا أيام الدين أن تكون خراسان لغياث الدين وغزنة والهند لبهاء الدين، وكان بهاء الدين صاحب باميان بعد موت شهاب الدين أقوى منه، فلهذا لم يفعل شيئاً، فلما بلغه خبر موت بهاء الدين جلس على التخت، وخطب لنفسه بالسلطنة عاشر رمضان، وحلف الأمراء الذين قصدوه، وهم إسمعيل الخلجي، وسونج أمير أشكار، وزنكي بن خرجوم، وحسين الغوري صاحب تكياباذ وغيرهم، وتلقب بألقاب أبيه غياث الدنيا والدين، وكتب إلى علاء الدين محمد بن أبي علي وهو بفيروزكوه يستدعيه إليه، ويستعطفه ليصدر عن رأيه، ويسلم مملكته إليه؛ وكتب إلى الحسين بن خرميل، والي هراة، مثل ذلك أيضاً، ووعده الزيادة في الإقطاع.
فأما علاء الدين فأغلظ له في الجواب، كتب إلى الأمراء الذين معه يتهددهم، فرحل غياث الدين إلى فيروزكوه، فأرسل علاء الدين عسكراً مع ولده، وفرق فيهم مالاً كثيراً، وخلع عليهم لمنعوا غياث الدين، فقوه قريباً من فيروزكوه، فلما تراءى الجمعان كشف إسمعيل الخلجي المغفر عن وجهه وقال: الحمد لله إذ الأتراك الذين لا يعرفون آباءهم لم يضيعوا حق التربية، وردوا ابن ملك باميان، وأنتم مشايخ الغورية الذين أنعم عليكم والد هذا السلطان، ورباكم، وأحسن إليكم كفرتم الإحسان، وجئتم تقاتلون ولده، أهذا فعل الأحرار؟ فقال محمد المرغني، وهو مقدم العسكر الذين يصدرون عن رأيه: لا والله! ثم ترجل عن فرسه، وألقى سلاحه، وقصد غياث الدين، وقبل الأرض بين يديه، وبكرى بصوت عال، وفعل سائر الأمراء كذلك، فانهزم أصحاب علاء الدين مع ولده.
فلما بلغه الخبر خرج عن فيروزكوه هارباً نحو الغور، وهو يقول: أنا أمشي أجاور بمكة؛ فأنفذ غياث الدين خلفه من رده إليه، فأخذه وحبسه، وملك فيروزكوه، وفرح به أهل البلد، وقبض غياث الدين على جماعة من أصحاب علاء الدين الكرامية، وقتل بعضهم.
ولما دخل غياث الدين فيروزكوه ابتدأ بالجامع فصلى فيه، ثم ركب إلى دار أبيه فسكنها، وأعاد رسوم أبيه، واستخدم حاشية، وقدم عليه عبد الجبار بن محمد الكيراني، وزير أبيه، واستوزره، وسلك طريق أبيه في الإحسان والعدل.
ولما فرغ غياث الدين من علاء الدين لم يكن له همة إلا ابن خرميل بهراة واجتذابه إلى طاعته، فكاتبه وراسله، واتخذه أباً، واستدعاه إليه.
وكان ابن خرميل قد بلغه موت شهاب الدين ثامن رمضان، فجمع أعيان الناس، منهم: قاضي هراة صاعد بن الفضل السياري، وعلي بن عبد الخلاق بن زياد مدرس النظامية بهراة، وشيخ الإسلام رئيس هراة، ونقيب العلويين ومقدمي المحال، وقال لهم: قد بلغني وفاة السلطان شهاب الدين أنا في نحر خوارزم شاه، وأخاف الحصار، وأريد أن تحلفوا لي على المساعدة على كل من نازعني. فأجابه القاضي وابن زياد: إننا نحلف على كل الناس إلا ولد غياث الدين؛ فحقدها عليهما، فلما وصل كتاب غياث الدين خاف ميل الناس إليه، فغالطه في الجواب.
وكان ابن خرميل قد كاتب خوارزم شاه يطلب منه أن يرسل إليه عسكراً ليصير في طاعته ويمتنع به على الغورية، فطلب منه خوارزم شاه إنفاذ ولده رهينة، ويرسل إليه عسكراً، فسير ولده إلى خوارزم شاه، فكتب خوارزم شاه إلى عسكره الذين بنيسابور وغيرها من بلاد خراسان يأمرهم بالتوجه إلى هراة، وأن يكونوا يتصرفون بأمر ابن خرميل ويتمثلون أمره.
هذا وغياث الدين يتابع الرسل إلى ابن خرميل، وهو يحتج بشيء بعد شيء انتظاراً لعسكر خوارزم شاه، ولا يؤيسه من طاعته، ولا يخطب له ويطيعه طاعة غير مستوية.
ثم إن الأمير علي بن أبي علي، صاحب كالوين، أطلع غياث الدين على حال ابن خرميل، فعزم غياث الدين على التوجه إلى هراة، فثبطه بعض الأمراء الذين معه، وأشاروا عليه بانتظار آخر أمره وترك محاقته.
واستشار ابن خرميل الناس في أمر غياث الدين، فقال له علي بن عبد الخلاق بن زياد، مدرس النظامية بهراة، وهو متولي وقوف خراسان التي بيد الغورية جميعها: ينبغي أن تخطب للسلطان غياث الدين، وتترك المغالطة؛ فأجابه: إنني أخافه على نفسي، فامض أنت وتوثق لي منه.
وكان قصده أن يبعده عن نفسه، فمضى برسالته إلى غياث الدين، وأطلعه على ما يريد ابن خرميل بفعله من الغدر به، والميل إلى خوارزم شاهن وحثه على قصد هراة، وقال له: أنا أسلمها إليك ساعة تصل إليها؛ ووافقه بعض الأمراء، وخالفه غيرهم،! وقال: ينبغي أن لا تترك له حجة، فترسل إليه تقليداً بولاية هراة، ففعل ذلك، وسيره مع ابن زياد وبعض أصحابه.
ثم إن غياث الدين كاتب أميران بن قيصر، صاحب الطالقان، يستدعيه إليه، فتوقف؛ وأرسل إلى صاحب مرو ليسير إليه، فتوقف أيضاً، فقال له أهل البلد: إن لم تسلم البلد إلى غياث الدين، وتتوجه إليه، وإلا سلمناك، وقيدناك، وأرسلناك إليه، فاضطر إلى المجيء إلى فيروزكوه، فخلع عليه غياث الدين، وأقطعه إقطاعاً، وأقطع الطالقان سونج مملوك أيبه المعروف بأمير أشكار.